درس في التوريث القيادي
Bottom of Form
درس في التوريث القيادي
24/07/2010
08:29:52.
- صفحة التوريث القيادي : لمنع حدوث الاحتكاك بين جيل ما
قبل الفتح وجيل ما بعد الفتح.
- وصفحة مجتمع ما بعد تبوك : حيث الإيمان في تمدد والنفاق
في انحسار، وحيث لم يبق في المعارضة إلاّ تسعة (09) نفر فقط كمنوا تحت موجة المد
الإسلامي الكاسح بانتظار حروب الردة.
درس في التوريث القيادي
بعد فتح مكة أدرك رسول الله أن مكة مازالت تمثل
"عاصمة" الزعامات العربية، وأن الأحق بإمارتها هو كبير زعمائها، أبو
سفيان بن حرب، ولعله قد تطلع إلى هذا المنصب أزيد من مائة (100) زعيم كلهم يشتركون
في ثلاث صفات:
- التقدم في السن والتجربة، ممن حنكهم الظروف
- الانتساب لقبائل ذات شوكة وصولة وحسب ونسب..
- التساوي في الأقدمية الزمنية التحاقا بركب الإسلام (يوم
الفتح).
لكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاجأ كل هاتيك
الزعامات التي حاربت الإسلام واحدا وعشرين (21) عاما، من يوم "إقرأ باسم
ربك" إلى يوم "إنا فتحنا لك فتحا مبينا" فتخطاها جميعا، وتجاوز كل
شيوخ مكة وسادتها.. ووقع اختياره على شاب لم يتجاوز العشرين (20) عاما من عمره هو
عتاب بن أسيد ليعطيه إمارة مكة المكرمة، ويضع تحت قيادته كل الزعامات القديمة،
لسببين ظاهرين :
- أنه لم يكن طرفا في الصراع، فعمره يساوي بالضبط عمر
الدعوة،
- أنه من بني أمية (حتى يسد به ثغرة التقول على بني عبد
المطلب، فيقول المغرضون: لقد استعمل بني عمومته وهمش سادة بني أمية وشبابها؟؟)
فأسكت بذلك الشيوخ والشباب والقبائل، وفتح بهذا الشاب صفحة جديدة من توظيف
الكفاءات الشابة.. ثم وضع خطة لتوزيعهم، بعد هذه السابقة، على كل مناشط الحياة.
فكأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما شعر بدنوَّ أجله
راح "يشبب" البنية الهيكلية للمجتمع الإسلامي.. ويعطي الإشارة لجيل
التأسيس بأن عشرين (20) عاما من البناء (على تقوى من الله ورضوان) قد أنتجت جيلا
جديدا من الشباب لابد من توظيف طاقاته في الفقه، والقراءة، والجهاد، والإمارة،
والصحبة..
- فأعطى لواء الفقه في الدين لسيدنا معاذ بن جبل (رضي
الله عنه) وعمره لا يتجاوز الإثنين والعشرين (22) عاما.
- وعقد لواء قيادة الجيش لأسامة بن زيد (رضي الله عنه)
وعمره دون العشرين (20) عاما، وفي الجيش كبار الصحابة وعظماء الإسلام..
- وفوّض..وقلّد..وأمر الشباب في كل المجالات..وكلها
"تجديدات" في التوريث القيادي لإعادة هيكلة المجتمع الجديد،
وكأنه (صلى الله عليه وسلم) كان يؤصل للتوريث القيادي
الذي لو تُرك لإجتهادات البشر لجمد الصف الأول على خط القيادة حتى
"تتجدد" القيادة بالموت وما بعد الموت، لكن رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) وهو العليم بدخيلة نفسيات البشر بما علمه ربنا تبارك وتعالى، وهو المدرك –
من خلال حرص بعض الزعماء على الإمارة ولو على حجارة- كان يدرك أن "حب
الظهور" نوع من أنواع إثبات الذات، لذلك تنبه إلى مخاطر مرض الزعامة فبادر
إلى إيجاد مواقع متقدمة للشباب حتى لا يكون تقديمهم – من بعده- مزية من أحد أو تشريفا
لمجرد أنهم شباب وأن من حقهم المشاركة، ولو رمزيا، لإعطاء دم جديد للقيادات
المترهلة والزعامات الملتصقة بالكراسي، ليس بسبب كفاءاتها، وقدراتها، وإبداعاتها،
ونصرتها لهذا الدين..بل لأنها وصلت أولا، وفي عقيدة بعض الزعماء أنهم إذا كانوا
مقربين فأنهم مقربون من الكراسي وليس من جنات التعيم "على سرر متقابلين".
ليس هذا هو المهم، في موضوع الفرز التربوي اللازم بعد
جوله يتحقق بعدها النصر أو تحيق بالمسلمين فيها الهزيمة، إنما المهم أن يدرك
متصدرو الصفوف الأمامية درسين بالغي الأهمية في هذا الصدد، لأنهما مفتاحا كل نصر
ومغلاقا كل هزيمة وهما:
الأول، مراجعة رصيد الإيمان : فبعد هزيمة المسلمين في أحد
أصابهم الهمّ والغمّ..وشعر بعضهم بالمهانة والحزن.. فنزل قوله تعالى : "ولا
تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين..".
- فلا وهن..مع إيمان
- ولا حزن..مع إيمان
- بل هو استعلاء إيماني لحظة النصر ولحظة الهزيمة..
إذا كان رصيد الإيمان كافيا لمواصلة السير في طريق الدعوة
دفاعا عن القيم وانتصارا للثوابت والمبادئ فذلك هو النصر الحقيقي..، لأن الهزيمة
العسكرية جولة تجريبية قد تصبح تدريبا على الانتصارات المتوالية إذا استوعب
أصحابها دروس الهزيمة، وبالمثل تماما، قد تمهد الانتصارات الكبرى لسلسلة من
الهزائم الماحقة إذا لم يودَّ أصحابها واجبات الشكر وفروض العدل في الأرض، لذلك
نزلت الآيات الكريمات – بعد انتصار المسلمين في بدر- مذكرة بضرورة مراجعة رصيد
الإيمان : "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم
مؤمنين".
- فمع النصر نحتاج إلى تقوى الله تجديدا وتثبيتا
- ومع النصر نحتاج إلى إصلاح ذات بيننا : شكرا وتواضعا
ومودة وأخوة..لإننا سوف نتنازع حول كيفيات اقتسام الغنائم وتسوء فيها أخلاقنا (كما
صرح بذلك أحد صحابة رسول الله عندما اختلف الصحابة حول كيفيات اقتسام غنائم الحرب
بعد انتصارهم على المشركين في بدر؟؟)
- ومع النصر نحتاج إلى تجديد مفهوم طاعة الله في قلوبنا
حتى لا نغترَّ بقوتنا وأعدادنا ومضاء شوكتنا وتوالي انتصارتنا، فننسى أن النصر، كل
النصر، من عند الله : "وما النصر إلاّ من عند الله".
فاحفظ هذا الدرس المحوري، وراجع رصيدك الإيماني، بعد كل
نصر وإثر كل هزيمة، فالنصر والهزيمة (أو الإنتصار والإنكسار) شريكان لك في رصيد
الإيمان، وكلاهما مخوّل أن يسحب من رصيدك الإيماني أو يضيف إليه رصيدا جديدا
بغير تفويض منك – مع فرحة النصر أو مع صدمة الهزيمة- يسحب أو يضيف مبلغا قد يتسبب
لك في الإفلاس الإيماني الكامل، فتصاب بالإحباط، وتيأس من رحمة الله..فيمسك السوء
ويلوطك الكفر : "إنه لا ييأس مع روْح الله إلاّ القوم الكافرون" فتعيش
كل حياتك متخبطا تتعامل مع الله بصك بلا رصيد. (فافهم). أو يضاف إلى رصيدك ما يرتع
بك درجات عالية تؤطلك إلى تبوإ مقاعد المحتسبين : "الذين قال لهم الناس إن
الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم لإإيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل"
والثاني، الناس مشاعر وليسو طوبا : هكذا علمنا الإسلام،
ولك أنت أن تتصور نفسك واقفا يوم فتح مكة مع ألفين (2000) من الناس، حاربوا
الإسلام عشرين عاما ثم ها هم بين يدي رسول الله وجلين بانتظار قرار القائد الأعلى
لقوات الفتح التي كان قوامها عشرة ألآف (10.000) مقاتلا كل واحد منهم أعطاه الله
تعالى قدرة مائة (100) مقاتل.. لأنهم كانوا قوما صابرين : "إن يكن منكم عشرون
صابرون يغلبوا مائتين".
ولأن هؤلاء المشركين قد وقعوا أخيرا بين يدي من حاربوهم
واحدا وعشرين (21) عاما، ولأنهم كانوا "مجرمين" في حق الإسلام ومحاربين
رسوله..فقد كان القرار المتوقع واحدا من إثنين، حسبما يفهم من سياق ما جاء في كتاب
الله عن نهايات كل حرب تُضرب فيها الرقاب فإذا بلغت المعركة نهايتها فالأمر يصير –
بيد المنتصرين- إلى واحد من إثنين :
- فإما منَّا بعدُ
- وإما فداء
لكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) اختار أن تستمر أجواء
فرحة الفتح بعيدا عن مشاعر "ضرب الأعناق"..وبعيدًا عن طلب الفدية..فقد
اختار الرسول، هذه المرة، أن يكثّر سواد المسبحين (مع الداخلين في دين الله
أفواجا).. أختار الاستغفار للذين أساؤوا التقدير في فهم حقيقة هذا الدين، أختار أن
يجرجر شبه الجزيرة كلها إلى أن تركن إلى رحمة التواب الوهاب بالتسبيح والاستغفار :
"إنه كان توابا".
وانطلقت الكلمة مدوية في أذن التاريخ : "إذهبوا
فأنتم الطلقاء"، وحرر الإسلام رقابهم أجمعين بكلمة واحدة..وفي أقل من سبعين
(70) يوما أنضم ألفان (2000) من الطلقاء إلى قائمة المجاهدين يوم حنين.. وهكذا..
وبكلمة واحدة حولتهم سماحة الإسلام من مجرد أرقام تنتظر التصفيات إلى طاقات عاملة
لللإسلام، مدافعة عن حياضة منتصرة لدعوته..
فالدين المعاملة يا أخي، والناس –قبل أن يكونوا طينا
وطوبا – كانوا عواطف وأحاسيس وخفقات قلوب..كانوا "نفخة من روح" طغت
عليها جواذب الأرض فتحدّرت بها إلى ثقلة الطين..وإلى مهاوي الرذيلة :
- فكن أنت مع نفخة الروح منتصرًا لنداء الفطرة،
- ولا تكن مع قبضة الطين متثاقلا إلى الأرض
والتوسط بينهما هو الإسلام، فإذا فقهت حقيقة هذا الدين
أدركت أن الناس يقبلون عليه بسبب حسن معاملة أصحابه لهم وليس بسبب فصاحة ألسنتهم
ومضاء أسلحتهم وكثرة أموالهم..فأحسن التعامل مع من يحيط بك من الناس وأشعرهم
بأهميتهم عندك وتغاضى عن بعض أخطائهم وصححها بتواضع..و في أدب كريم، بعيدا عن لغة
التشهير والفضيحة..وتجاوز عن بعض زلاتهم وأكرم عزيز قومه إذا ذل..وتيقن أنك
إن فعلت ذلك والتزمته منهاج حياة فإنك سوف تكون "صحابيا" بمعية الوجدان
ولو فاتتك معية الزمان والمكان ذلك أن التربية الإيمانية ليست مرتبطة بالزمان ولا
بللمكان..وإنما رباطها الوجدان، وميدان معركتها الفاصلة هي النفس البشرية – لذلك
لم يقل ربنا عز وجل : "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
إن مدار المعارك كلها إنما يقوم على حركة النفس البشرية، فإذا
حسمت المعركة على مستوى الوجدان تقرر حسمها على مستوى الزمان والمكان..وإذا
أقمت "دولة الحق" في نفسك أقامها الله على الأرض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق